فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.اللغة:

{تلووا} الليى: الدفع، يقال: لويت فلانا حقه إذا دفعته ومطلته ومنه الحديث: «لى الواجد ظلم» أي مطل الغني ظلم.
{يخوضوا} الخوض: الاقتحام في الشيء ومنه خوض الماء.
{نستحوذ} الاستحواذ: الاستيلاء والتغلب، يقال: استحوذ على كذا إذا غلب عليه، ومنه قوله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان}.
{مذبذبين} الذبذبة: التحريك وا لاضطراب يقال ذبذبته فتذبذب، والمذبذب: المتردد بين أمرين.
{الدرك} بسكون الراء وفتحها ثمعنى الطبقة وهي لما تسافل. قال ابن عباس: الدرك لأهل النار، كالدرج لأهل الجنة الا ان الدرجات بعضها فوق بعض، والدركات بعضها أسفل من بعض. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ} {قَوَّامِينَ} بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها.
ثم ذكر الوالدين لوجوب بِرِّهما وعِظم قدرِهما، ثم ثنّى بالأقربين إذ هم مظنة المودّة والتعصب؛ فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال. اهـ.

.قال الفخر:

القوام مبالغة من قائم، والقسط العدل، فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل، وقوله: {شُهَدَاء للَّهِ} أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم، وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران: الأول: أن يقرعلى نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجبًا إلزام الحق، والثاني: أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالًا على أنفسكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {للَّهِ} معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه.
{وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} متعلق بـ {شُهَدَاءَ}؛ هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيُقرّبها لأهلها، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه؛ كما تقدّم.
أدّب الله جلّ وعزّ المؤمنين بهذا؛ كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم.
ويحتمل أن يكون قوله: {شُهَدَاءَ للَّهِ} معناه بالوحدانية لله، ويتعلق قوله: {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} بـ {قَوَّامِينَ} والتأويل الأوّل أبّيَن. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه: الأول: أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن، وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة، وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولًا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيًا، تنبيهًا على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.
الثاني: أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول، والفعل أقوى من القول.
فإن قيل: إنه تعالى قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمًا بالقسط} [آل عمران: 18] فقدم الشهادة على القيام بالقسط، وههنا قدم القيام بالقسط، فما الفرق؟
قلنا: شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقًا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات، فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط، أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعيًا للعدل ومباينًا للجور، ومعلوم أنه ما لم يكن الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة، فثبت أن الواجب في قوله: {شَهِدَ الله} أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب هاهنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط، ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد، الإلهي والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأُم ماضية، ولا يمنع ذلك من برّهما، بل من برّهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]
فإن شهد لهما أو شهدا له فقد اختلف فيها قديمًا وحديثًا؛ فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأوّلون في ذلك قول الله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاءَ للَّهِ} فلم يكن أحد يُتَّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ثم ظهرت من الناس أُمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة؛ وهو مذهب الحسن والنخعِيّ والشعبِيّ وشريح ومالك والثورِيّ والشافعيّ وابن حنبل.
وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولًا.
وروي عن عمر ابن الخطاب أنه أجازه؛ وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق والثوريّ والمزنِيّ.
ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلًا إلاَّ في النسب.
وروي عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه.
وقال مالك وأبو حنيفة: شهادة الزوج لزوجته لا تقبل؛ لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة.
وقال الشافعيّ: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو مُعَرّض للزوال.
والأصل قبول الشهادة إلاَّ حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل؛ وهذا ضعيف؛ فإن الزوجية توجب الحَنَان والمواصلة والألفة والمحبة، فالتهمة قوية ظاهرة.
وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم.
قال الخطابيّ: ذو الغِمْر هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فتردّ شهادته عليه للتهمة.
وقال أبو حنيفة: شهادته على العدوّ مقبولة إذا كان عدلًا.
والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال.
ويُقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدِمُهم ويكون في حوائجهم؛ وذلك مثل الأجِير أو الوكيل ونحوه.
ومعنى ردّ هذه الشهادةِ التّهْمَةُ في جر المنفعة إلى نفسه؛ لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع.
وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعًا فشهادته مردودة؛ كمن شهد لرجل على شراء دارٍ هو شفيعها، أو كمن حكم له على رجل بدَيْن وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدَيْن ونحوِه.
قال الخطّابي: ومن ردّ شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يردّ شهادة الزوج لزوجته؛ لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر؛ وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه؛ لأنه يجرّ به النفع لما جُبِل عليه من حبه والميل إليه؛ ولأنه يتملك عليه ماله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك».
وممن تردّ شهادته عند مالك البدوِيّ على القَرَوِيّ؛ قال: إلاَّ أن يكون في بادية أو قرية، فأما الذي يُشهد في الحضر بدَوِيًّا ويدع جِيرتَه من أهل الحضر عندي مُريب.
وقد روى أبو داود والدارقطنيّ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجوز شهادة بدوِيّ على صاحب قرية» قال (محمد) بن (عبد) الحكم: تأوّل مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال، ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق.
وقال عامة أهل العلم: شهادة البَدَوِي إذا كان عدلًا يقيم الشهادة على وجهها جائزة؛ والله أعلم.
وقد مضى القول في هذا في البقرة، ويأتي في «براءة» تمامها إن شاء الله تعالى. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}
انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها، وما يقارنه من الشهادة الصادقة، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يَجرّ إلى فساد متسلسل.
وصيغة {قوّامين} دالّة على الكثرة المراد لازمها، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال.
والقِسط العدل، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {قائمًا بالقسط} في سورة [آل عمران 18].
وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبَة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحُكم، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله: {شُهداء لله} فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكممِ.
و{لله} ظرف مستقرّ حال من ضمير {شهداء} أي لأجل الله، وليست لام تعدية {شهداء} إلى مفعوله، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلَّقه وهو وصف {شهداء} لإشعار الوصف بتعيينه، أي المشهود له بحقّ.
وقد جمعت الآية أصليَ التحاكم، وهما القضاء والشهادة.
وجملة {ولو على أنفسكم} حالية، و(لو) فيها وصلية، وقد مضى القول في تحقيق موقع (لو) الوصلية عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} في سورة [آل عمران 91].
ويتعلّق {على أنفسكم} بكلَ من {قوّامين} و{شُهداء} ليشمل القضاء والشهادة.
والأنفس: جمع نفس؛ وأصلها أن تطلق على الذات، ويطلقها العرب أيضًا على صميم القبيلة، فيقولون: هو من بني فلان من أنفسهم.
فيجوز أن يكون {أنفسكم} هنا بالمعنى المستعمل به غالبًا، أي: قوموا بالعدل على أنفسكم، واشهدوا لله على أنفسكم، أي قضاء غالبًا لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم، لأنّ حرف (على) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرًّا ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه.
ويجوز أن يراد: ولو على قيبلتكم أو والديكم وقرابتكم.
وموقع المبالغة المستفادة من (لو) الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه، ويرون ذلك من إباء الضيم، ويرون ذلك حقًّا عليهم، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعارًا يقضي منه العجب.
قال مرّة بن عداء الفقسي:
رأيت مواليّ الآلَى يخذلونَني ** على حدثان الدهر إذ يتقلب

ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية، حتّى يقولون في الدعاء: (فذاك أبي وأمي)، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم.
فإن أبيتَ إلاّ جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهديِنَ فاجعل عطف «الوالدين والأقربين» بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلاّ يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه، فهو أمير نفسه فيه، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثمّ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة، كقوله: {شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18]. اهـ.